الاستبداد من الخلافة للرئاسة


المصدر الاهرام - د. مصطفى الفقى - قضايا و آراء

وقع فى يدى كتاب مثير لمؤلف مصرى واعد هو الأستاذ محسن عبد العزيز الكاتب الصحفى وعنوانه الاستبداد من الخلافة للرئاسة (أيام للحضارة وسنوات للسقوط) وقد قدم للكتاب فى طبعته الأولى الكاتب الكبير الراحل سعد هجرس، وتكمن أهمية ذلك الكتاب الرائع فى أنه يتبنى نظرية واضحة ويمضى وراء تطبيقاتها على امتداد عصور الحضارة العربية الإسلامية فى سنوات ازدهارها وانكسارها لكى يتتبع تلك الظاهرة المثيرة التى جعلت الاستبداد قاسمًا مشتركًا بين معظم الحكام فى التاريخ العربى الإسلامى، ولكى نعرف قيمة ما كتب محسن عبد العزيز فإننا نقرأ هذه السطور المنتقاة من كتابه عندما يفصح صراحة: «لكل حاكم مستبد سيف وشيخ وشاعر، سيف يقطع الرقاب، وشيخ يكفر أصحابها، وشاعر يمدح شجاعته! حتى يتحول الشعب إلى قطيع، يعلمهم الشيخ فضيلة الرضا والخضوع، ويعلمهم الشاعر فن المدح، ولا يكون هناك علم، ولا تفكير، ولا أسئلة، ولا بحث، ولا جدل، فيموت العقل ويذبل الفكر وتسير البلاد إلى النهاية واثقة من خطاها، ويكون المدح، ويكون الشيخ، ويكون السيف، ولا شىء آخر، وكلما اقتربت البلاد من نهايتها خطوة برق السيف وكلما اقتربت خطوة أخرى كان المدح الأعظم، وقام الشيخ يغرى الناس بالصبر والجنان حتى تسقط دولة المستبد» ولقد حشد المؤلف لكتابه عددًا من المراجع بدءًا من الكتب والمخطوطات وصولًا إلى الدوريات والمقالات وهو أمر أكسب الكتاب ثراءً وقيمة، ولكن القيمة الحقيقية لهذا الكتاب إنما تكمن فى كل سطر من سطوره خصوصًا عندما يوقت الكاتب للاستبداد فى الحضارة الإسلامية باللحظة التى طلب فيها معاوية بن أبى سفيان البيعة لابنه يزيد، ونتذكر مع الكاتب وهو يسجل رأى الأحنف بن قيس فى بيعته ليزيد عندما قال: «نخاف الله إن كذبنا ونخافكم إن صدقنا» وهى أيضًا لغة الاستبداد التى جعلت يزيد بن المقفع العذرى يقول: «هذا أمير المؤمنين ـ وأشار إلى معاوية ـ فإن هلك ـ وأشار إلى يزيد ـ ومن أبى فهذا ـ وأشار إلى سيفه» وعندما يدقق الباحث فى ميلاد الاستبداد فى إطار الحضارة العربية الإسلامية فلابد أن يدرك الفارق بين عصر الخلفاء الراشدين عندما قامت الخلافة على مبدأ الشورى الذى يجسده اجتماع (سقيفة بنى ساعدة) بعد أن توفى نبى الإسلام وكيف جاءت البيعة لأبى بكر بعده من قدامى المسلمين وخلصاء الصحابة، بينما جاءت البيعة الوراثية فى العصر الأموى من أول خليفة لابنه نموذجًا للاستبداد فتحول مفهوم الخلافة باعتبارها رمزًا دينيًا إلى ملك عضوض لم يتوقف حتى اليوم، وكتب المؤلف عن بيعة يزيد: «تعد بيعة يزيد وما جرى فيها دستورًا جامعًا مانعًا للمستبدين وأعوانهم.. الأدوار موزعة على الجميع بالعدل.. هناك من يقدم النصيحة ويقبض ثمنها الاستمرار فى الحكم .. ومن يقوم بالدعاية الدبلوماسية .. ومن يكشف للناس فضائل يزيد ـــ السكير ـــ ومن ينذر بالسيف ومن يوزع على الناس العطايا» كما يتطرق الكاتب إلى تنظير نظم الحكم وعلاقتها بالاستبداد فيرى أن «عماد الحكم المطلق هو النظرية الأبوية البطريركية التى بلغت ذروتها على يد جون لوك، فالحكومة يرأسها ملك وعلاقة الملك بالرعية مثل علاقة الأب بأولاده وتقوم هذه العلاقة على الخضوع والطاعة وهى تعتمد كعادة المستبدين على العواطف وليس القدرة المنطقية عند من يرتضونها وأحيانًا يدعى الطاغية أن السلام والأمن الداخلى يكون مقابل تنازل الرعية عن حرياتهم ثم يبدأ فى السطو على كرامة الناس وأموالهم وتنكمش الدولة لا الحكومة وتصبح هناك دولة أخرى من أعضاء حكومة الطاغية وحدهم ويتحول الحاكم إلى ما يشبه صاحب عصابة يهاجم الناس ليغتصب أمتعتهم والشعب مسلوب الإرادة ضعيف لا يستطيع المقاومة أبدًا والفقر على رءوس الجميع يذل أعناقهم للقتات من أجل الأطفال أو المرضى بينما الأغنياء إما فاسدين أو ليس لهم شأن بالسياسة»، ويقارن الكاتب فى براعة بين دولة الاستبداد والدولة الديمقراطية فيقول: «دولة الاستبداد تبرع فى إضفاء صفات العظمة على الطغاة مثل الزعيم والقائد والحكيم، بطل الحرب، صانع السلام، شاهنشاه ملك الملوك، السلطان المعظم.. وقد كان لكل خليفة عباسى لقب مثل الهادى، الرشيد، الأمين، المأمون وعندما ضعفت وأصبحت على وشك الانهيار أصبح بها المستنجد، القاهر، الظافر، المستعصم، وفى الخلافة الفاطمية كان المعز لدين الله والحاكم بأمر الله والعادل والكامل وحتى المماليك العبيد سموا المظفر والظاهر» ويتطرق المؤلف إلى علم السياسة وعلاقته بكاريزما القائد: «فى البلاد الديمقراطية ليس هناك من لا يمكن استبداله بغيره ومهما يكن الإعجاب بقائد معين فلابد أن يكون فى مقدورنا الاستغناء عنه وإلا جعل نفسه سيدًا مستبدًا يتحول من قائد منتصر إلى طاغية مثلما فعل الشعب البريطانى عندما أسقط تشرشل بعد انتصاره فى الحرب العالمية الثانية والفرنسيون مع ديجول أيضًا خوفًا من أن يتحول القائد الظافر إلى طاغية كما يحدث فى بلادنا.. يبدأ الحاكم قائدًا منتصرًا مدافعًا عن حقوق الفقراء ثم يتحول سيدًا مستبدًا وطاغية لا يشبع من السطو على أموال شعبه فى كثير من الأحيان». 
تحية للمؤلف، المثقف مع أمل فى أن تتحول الدول العربية والإسلامية نحو مناخ الحريات الحقيقية والاستقرار الذى يقوم على العدالة الاجتماعية وإعمال مبدأ المواطنة بين الجميع. 






اقرأ أيضاً :

======


الشـبيهان يعـيد طرح السؤال القديم: من يصنع الاستبداد؟

في ذكرى وفاته.. هذا ماقدمه عبد الناصر للإسلام





تعليقات

المشاركات الشائعة