"السبع وصايا" تتوارى خلف صوفية مصطنعة


ما زالت الدراما التليفزيونية المصرية تثبت قدرتها علي الارتقاء درجة تلو الأخري علي سلم الإبداع مع ما تشهده من تجديد لدمائها وتطورها بتخليها عن كلاشيهات قتلت تشخيصاً أو تيمات متعارف عليها كثيراً ما تضع المشاهد موضع كاتب السيناريو ليتنبأ بالأحداث ويضع النهايات.
رغم أنه يتعامل مع كثير من المسلسلات كما يتعامل مع «كيس لب» يتركه ويعود ليجده حيث تركه فيستأنف تسليته مع اعتيادية السرد وعدم احترام عقلية الجمهور، وهو خطأ أطاح بأغزر كتاب ومخرجي الدراما إنتاجاً ليحفروا قبورهم بأيديهم، فلا تجد الصناعة بداً من إتاحة الفرصة أمام الجديد وهو ما حدث خلال السنوات القليلة الماضية.ويقف مسلسل «السبع وصايا» ضمن قائمة الأعمال الأهم في دراما 2014 بما يحمله من معالجة تقدم رؤية مختلفة وتناولاً جديداً لموضوع ليس بجديد، ولكن الشيطان يكمن في التفاصيل فلا يوجد موضوع جديد ولكن هناك تناولاً جديداً وهو ما حققه محمد أمين راضي فى معالجته التي اعتمد في صياغتها علي غزو منطقة مهمة ومهملة من الموروث الشعبي المصري وقام بتوظيفها في إطار درامي مشوق حقق للعمل خصوصية استند إليها لا في الشكل فقط ولكن في المضمون أيضاً.فمسلسل «السبع وصايا» الذي انتهي بضحكة شيطانية للمخضرم أحمد فؤاد سليم الأب الذي شكل اختفاء جثته عامل تشويق استند عليه السيناريو لجذب المشاهد للتعلق بأحداثه طوال الحلقات التسع والعشرين وكأنه يسخر من سذاجة جمهور صدق في سذاجة شخصيات موجهة هي الأخري لتسير في طريق ابتدعته نفوسهم المريضة التي تتمسح في الدين في ظاهرها ولكن باطنها لا يحمل إلا الجحيم، فالمقدمات تؤدي للنتائج ومن يزرع الشر لا يجني الزهور.ورغم إضفاء جو صوفي علي العمل بداية من التتر الذي حمل كلمات محيي الدين ابن عربي، أحد أهم شيوخ الصوفية، إن لم يكن المرجع الأكبر لطرقها المختلفة بما وضعه من مؤلفات قدمت شروحات وافية لأفكار الصوفية المتعلقة بعقيدتي الاتحاد ووحدة الوجود اللتين طالما اصطدمتا مع مذهب أهل السنة والجماعة، بالإضافة للتنظير لأحوال الصوفية من خلال فتوحاته ورسائله.ولكن مع الغوص في أحداث العمل نكتشف أنه يخلع عنه خرق الصوفية خرقة تلو الأخري ليضعنا أمام ضمائر خربة تتمسح بأفكار الصوفية، مستغلاً قدرة كاتبه علي تحقيق حالة من الإيهام تسهم في صنعها الشخصيات المحركة للأحداث التي يدفعها دفعاً لاتباع معتقدات الطرق الصوفية أو التظاهر بذلك مع ما يتوارد لذهن أي من البسطاء فيما يخص الإيمان بالولاية والكرامات التي ترتبط بها، بغض النظر عن الخلاف العقائدي حول هذه المعتقدات بين المذاهب الإسلامية وبعض أتباع الطرق الصوفية ليستغل العمل الكثير من الرموز التي تحمل دلالات تلقينا في بئر الصوفية العميقة التي لا يدرك طبيعتها إلا من نهل منها استناداً إلي مقولة أرباب هذا المعتقد «من ذاق عرف» وبالطبع من لم يذق فلن يدرك ما تحمله هذه البئر من مسكرات للبعض وسموم للبعض الآخر.فالعمل لا ينتمي للصوفية ولكنه يتظاهر بذلك ليلبس النص القديم لـ «الإخوة كرامازوف» خرقة الصوفية ويبقي الأب في الحالتين هو المحرك للأحداث بموته أو باختفائه بعد اكتشاف ما يملكه من مال يطلبه أبناؤه العصاة ليغيروا حياة قبيحة ألقاهم فيها هذا الأب القاسي الذي يجني ثمار قسوته بتآمر أبنائه علي قتله دون رحمة قبل أن يتفرقوا في الأرض.ويستمر أمين راضي في خداعنا فيلقي بكل واحد من الأبناء الهاربين في إحدي المدن التي تضم ضريحاً لأحد أولياء الصوفية الكبار الذي يلجأ إليه الأبطال كلما ضاقت عليهم ذواتهم أو تخلي عنهم شيطانهم الذي يدفع الخطوط الدرامية السبعة لأبناء «سيد نفيسة» مستخدماً الأحلام كوسيلة لتضليل الأبطال والجمهور علي حد سواء ليقول كلمته في النهاية، ويؤكد زيف ما حاول إيهامنا به طوال الحلقات معتمداً علي كسر الإيهام الذي يحققه ظهور كل من خالد جلال وكندة علوش في نقاشهما مع سوسن بدر أو «أوسة» حول اختفاء الأب غير المهم لأن الأهم هو ما وراء الحكاية وما تطرحه هذه الحكاية من أفكار.ويتميز التعاون الثاني بين محمد أمين راضي والمخرج خالد مرعي بالحفاظ علي تيمة البطولة الجماعية التي تحققت في تجربتهما الأولي «نيران صديقة» ليقدما توليفة مختلفة وشخصيات رسمت بعناية ولكن ردود أفعال بعض الشخصيات في الحلقات الأخيرة لم تكن مبررة كما تكرر هروب الشخصيات من تنفيذ الوصايا فإذا ما عثرت «بوسي» علي شخصية تنصرف عنها وتحملها المسئولية عن التيه الذي فرض عليهم رغم أن المعارضين لقتل الأب لم يزيدوا علي اثنين فليس من المبرر أن يمتعض الآخرون، خاصة أنهم لم يحققوا ملايين الجنيهات في رحلة هروبهم، ناهيك عن تكرار انفراط العقد وإعادة تجميعه وهو ما أثر علي الإيقاع الذي لم يأت بجديد في الحلقات العشر التي تلت النصف الثاني من المسلسل.ويحمل العمل الكثير من الجماليات علي مستوي الجمل الحوارية التي صاغها أمين راضي، وعلي مستوي موسيقي هشام نزيه التي أسهمت في التعبير عن حالة الحيرة والتيه في تيمتها الرئيسية، بالإضافة لتلونها مع تتابع الأحداث والنقلات الدرامية، كما تميزت شيرين فرغل في تنفيذ ديكورات متباينة ومعبرة لا عن المكان فقط، ولكن عن النفوس التي تعيش في هذه الأماكن، كما ساهم التصوير والإضاءة لإيهاب محمد علي وفريقه في تقديم صورة رائقة ورسم المشهد من خلال الإضاءة، خاصة مع تسيد اللون الأخضر لكثير من المشاهد وارتباط هذا اللون بأتباع الطرق الصوفية، كما وفق المونتير خالد سليم في شد إيقاع العمل إلا قليلاً وتقديم قطعات ناعمة أحياناً ومباغتة في أحيان أخري ولكنها تلائم الحدث الدرامي الذي يفرض طبيعة القطع أو المزج بين المشاهد.وتقف سوسن بدر علي قمة التشخيص بأدائها دور «أوسة» أو «سماح كامل» الممثلة التي تجمع بين الطبيعة الارستقراطية والشعبية وتسهم في تحريك الأحداث، لتثبت سوسن بدر أنها ما زالت متربعة علي عرش التجريب في الدراما التليفزيونية بخوضها كثيراً من المغامرات التي ترفع من أسهمها، خاصة أنها نجت من أمراض النجمات ولا تريد تصدر كافة المشاهد بغض النظر عن الموضوع، فهي هنا تحمل طاقة من الشر والمكر والدهاء ممزوجة بخفة الدم ثم تتحول في النهاية لمذنبة تستمتع بانتصار ذكائها علي الإخوة الأعداء، وفي الوقت نفسه تجلد ذاتها لما فعلته بهم خاصة «بوسي» أو رانيا يوسف التي كانت في قمة حضورها وتلبست الشخصية بمراحلها المختلفة وبما تحمله من مشاعر متضاربة تجاه الأب تارة وتجاه أشقائها التي أنهت حياتهم بيدها لمجرد تنفيذ وصية والد تكرهه، كما شكلت هنا شيحة ووليد فواز ثنائياً رائعاً أضفي علي العمل الكثير من البهجة، فهنا شيحة في شخصية «إم إم» تثبت قدرتها علي التنوع ودخول مناطق تمثيلية جديدة تستكشف من خلالها إمكانياتها كممثلة وقد برعت في هذا الدور وتفوقت علي نفسها، أما وليد فواز، هذا النجم الصاعد الذي انطلق من علي خشبة المسرح ودخل مجال الدراما ليترقي في أدوار هامشية ثم قدم عدداً من الأدوار الثانية، إلي جانب بعض الإعلانات، فوليد فواز ممثل قادر ومثقف وأكاديمي يمتلك أدواته منذ سنوات ليست بقليلة ولكنه كان في انتظار الفرصة التي منحها إياه خالد مرعي ولم يندم عليها لأنه منح من يستحق ما يستحق.وعلي الرغم من محدودية الدور الذي قدمه، فإن أحمد فؤاد سليم هذا الشامخ الذي لم يفشل في اختبار خاضه من قبل قدم شخصية «سيد نفيسة» بتمكن واقتدار يليقان به، فهو أحد النجوم الكبار الذين لا تطاردهم الأضواء ولكنه يعتبر واحداً من أهم مشخصاتية هذا العصر، ويخوض صبري فواز تجربة «السبع وصايا» بقدرة كبيرة علي التحكم في مشاعر الشخصية ووعي بمفرداتها المختلفة ليسهم كلاعب أساسي في مباراة تمثيلية رائعة إلي جانب محمد شاهين الذي تطور كثيراً في الفترة الماضية ويعتبر دور «صبري» بمثابة تغيير جلد لهذا الممثل الواعد مع الجدية التي تعامل بها مع الشخصية وانفعالاتها التي تنوعت بين الخوف والمكر والحميمية، وإلي جانب هذه الشخصيات يقف هيثم أحمد زكي الذي حاول جاهداً النجاح في اختبار «السبع وصايا» الصعب ولكن هناك مشاهد لم يسيطر فيها علي جموح الشخصية بشكل كامل، بينما جاءت آيتن عامر وناهد السباعي محايدتين إلي حد كبير، في الوقت الذي عادت شيرين الطحان بقوة من خلال شخصية جديدة عليها قدمتها بتحكم شديد، إلي جانب خالد كمال ومحمود حافظ، كما أبرز خالد مرعي كثيراً من الوجوه المبشرة مثل أحمد العوضي أو «محسن» وابتهال الصريطي «شحاتة»، ويحصل رمزي لينر علي فرصة جديدة لإبراز موهبته، كما يتميز أشرف طلبة في ظهوره الشرفي إلي جانب هالة فاخر، كما تبدو إطلالة ألفت إمام متميزة ومبهجة، إلي جانب تميز نسرين أمين مع النقلات التي مرت بها شخصيتها التي تتسم بالقوة قبل أن تنكسر بعد دخولها المستشفي وتعود لتستعيد قوتها مرة أخري، كما تقدم سلوي عثمان شخصية مختلفة إلي حد كبير عن الأدوار التي قدمتها من قبل في مرحلة السجن والمرحلة التي تلت خروجها والتحاقها برحلة أبناء «سيد نفيسة».




المصدر الوفد

تعليقات

المشاركات الشائعة