"سجن النسا" أنشودة درامية غرقت في التفاصيل


لا أحد يستطيع إنكار أن الأعمال الفنية السابقة التى قدمت عن السجن حاولت مدواة بعض الجراح وتخفيف الأوجاع، وهى بقدر ما تنشد من الحرية
لكنها تجعل منه حلماً بعيد المنال يراود السجناء، فإن عيشة الحرية والتمتع بها، يكاد يكون أشدّ قسوة على الكثيرين منهم بعد الحصول عليها، ذلك لأن السجن يدخلهم عوالمه ويطبق عليهم قوانينه بلا رحمة، وهذا ما تجلى بوضوح فى مسلسل «سجن النسا»، والأجمل أنه لمس فجيعة المسجون حين يكتشف أنه كان يعيش الحرية في سجنه ويعاني مرارة السجن خارجه، وظهر هذا فى الشخصية التى قدمتها «درة» و«نسرين أمين» فكلتاهما كان السجن لهما حماية وأكثر رحمة وأمناً ورأفة بهما من الخارج، لأن ما يحدث للسجين من شأنه قلب الموازين، وتغير الظروف فتبقيه غريبا عن واقعه، متألفاً مع سجنه.. ولأن «أدب السجن» ينقسم إلى نوعين من الكتابة: النوع الأول يرتبط بالكتّاب الذين عاشوا تجربة السجن فكتبوا عنها، مثل فتحية العسال والنوع الثاني يشير إلى الذين تناولوا موضوع السجن في أعمالهم بعيداً عن تجربة مَعيشية معتمداً على تجربة متخَّيلة مثل مريم ناعوم.. وهذا التنوع ظهر واضحاً من خلال مسلسل «سجن النسا».. ورغم أن هناك اختلافاً كبيراً بين ما قدمته فتحية العسال فى مسرحية «سجن النساء» والمسلسل الذى كتبت له مريم ناعوم المعاجة الدرامية والسيناريو إلى جانب البصمة الخاصة لكاملة أبوذكرى، إلا أن كل شخصية فى المسرحية كانت تصلح لأن تكون بطلة مسلسل، فالمسرحية فيها أكثر من خط درامى، يركز على معنى السجن الداخلى فى حياة الإنسان الذى هو أكبر وأقوى من السجن الحقيقى.وإذ كانت المسرحية قد قدمت على خشبة المسرح من سوسن بدر وصفاء الطوخى وماجدة نور الدين وسلوى خطاب، إلا أن الأخيرة هى الوحيدة التى شاركت فى العمل، وأعتقد أن أجمل ما فى العمل هو إظهار روح التجربة التى عاشتها فتحية العسال كتجربة شخصية عاصرتها أثناء فترة اعتقالها بالسجن يتحمل المجتمع الفاسد مسئولية انحرافهم أو الجرائم التي ارتكبوها، ليصل بتلك الحالات الإنسانية إلى هذه الحالة المريرة.. وتأثير الفقر والجهل والفساد على سلوك وحياة الأفراد وكيف تسبب في تغيير سلوكهم ويدفعهم إلى الانحراف، ليبين للجمهور مدى الضرر الذى يلحقه المجتمع بقسوته على بعض النماذج من النساء, ثم اللقاءات التى أجرتها مريم ناعوم مع نماذج إنسانية حقيقية عاشت تجربة السجن.. ولكننى أشعر بأن ناعوم كانت أكثر احتواء لتجربتها السابقة «موجة حارة» فتمسكت بالخيوط التى أبدعها الراحل أسامة أنور عكاشة فى قصته، على عكس تجربتها هذا العام التى كانت من شخصيتها الدخيلة على العمل «رضا» التى أدتها باقتدار «روبى» مقدمة نوعاً من البشر يكون تحولها إلى الإجرام بسبب المجتمع الذى تعيش فيه، وهذه المرة كان التعامل الإيجابى معها بشكل مفرط بدون وضع للخطوط الفاصلة بين الطبقات، فتلك الفتاة دمرتها الإنسانية غير المسئولة التى تم التعامل معها بحيث تم الإغداق عليها من الملابس والمشاعر الإنسانية دون أن يكون هناك تنمية للمحتوى الإنسانى، فجعلها هذا بدون أن تدرى تدخل فى مرحلة حق الاقتناص من الآخرين بدون وجه حق، ودخولها فى مرحلة الغيرة المرضية لأنها غيرة من شخصية لا تتواجد معها فى نفس الطبقة والظروف, لذلك كان منطقياً فى لحظة جنون وإحساس أنها تفقد كل شىء بسبب مخدومتها «جميلة» أن تنتقم منها بكل قسوة وبدون أى رحمة.وفى الوقع أن السيناريو رغم أنه ملىء بالشخصيات إلا أنه كان يهملها فى حلقات  كثيرة، ويعوض ذلك بحشو غير منطقى أو مبرر مثل شخصية هند (فاطمة عادل) التى ظلت ترقص فى إحدى الحلقات  على أغنية نانسى عجرم هل هذا المشهد كان تحضيرياً لتستولى على المعلم، وتبع ذلك حالة من الصراخ والنحيب من عزيزة (سلوى خطاب) المكلومة والمصدومة فى الزوجة والبنت التى حاولت مساعدتها بعد الخروج من السجن، بالإضافة إلى شخصية «درة» المهيأة نفسياً للسقوط ولعل مشهد موافقتها أن تشارك فى حفلة فى بيت خالتها المشبوه لمجرد الحصول على موبايل أكبر تفسير لأبعاد تلك الشخصية، التى أشارت السيناريست إلى مفهومها المغلوط عن الشرف من خطيبها الذى قال لها فى أحد المشاهد: «إن الشرف هنا وأشار إلى الدماغ).. وهى تختلف كثيراً عن شخصية زينات التى تمارس الدعارة لأنها لا تجد وسيلة أخرى للحصول على لقمة العيش، ورغماً أنه لا يوجد مبرر لسقوط الشخصيتين، إلا أنك قد تتعاطف نفسياً مع شخصية زينات ويزداد تعاطفك مع سرقة كليتهما واستمرارها فى عملية غسيل الكلى المؤلمة واقترابها من حافة الموت.وشدنى فى رسم الشخصيات الإشارة إلى حالة الازدواجية التى تعيشها أم «درة» وإخوتها، فالأم ترفض وجودها فى حياتهم بحجة الخوف على إخوتها وفى نفس الوقت لا ترفض الأموال التى تحصل عليها من ابنتها، والإخوات يتعاملن معها بتعال ويرون أنه غير مرغوب فى وجودها لأنها نموذج يسىء إليهن ولكن الأجمل فى طرح مأساة تلك الشخصية هو الاستفادة من شخصية دلال المحرومة من الحب التى تحاول أن تعيشه باختلاق شخصية جديدة لها، وحكاية لها ربما يريد عقلها الباطن أن يعيشها.. وهناك رسم دقيق لنماذج عديدة داخل السجن، منها الأم المصابة بالوسواس القهرى التى تقتل أولادها وزوجها لإنقاذهم من تلك الحياة، ولقد بنت ناعوم وساعدتها الممثلة على طرح أعماق الشخصية بمشاهد عديدة توصلنا فى النهاية إلى الاقتناع بمنطقية فعل القتل.ومع هذا النجاح فى رسم الشخصيات لكن هناك شخصية افتقدت المنطق وهى الأم التى قتلت الزوج لأنها وجدته يغتصب ابنته من المستحيل حصولها على الإعدام.. وإذا اقتربنا من النموذج شبه المحورى فى العمل الجماعى نجد شخصية «غالية» التى ألبست ثراء درامياً جعل منها تراجيديا ذات أبعاد إنسانية تتيح للفنان المبدع الانطلاق والتغريد وهذا ما فعلته «نيللى كريم».. ورغم أن تجربة السجن في أبعادها الواقعية تبقى واحدة في جميع التجارب، إلا أن التعبير عنها فى «سجن النسا» كان غنياً أسلوباً وفناً، وهذا ما يؤكد للمشاهد أن العمل الدرامى يختلف عن باقي أساليب الإبداع كالرواية والمسرحية الذى يمكن تناوله باعتباره عملاً يعد انعكاساً مباشراً أو نقلاً أميناً لتجربة موضوعية، فالمسلسل أو الفيلم  على خلاف العمل الأدبى، يصلح مرصداً لاكتشاف الشخصيات المختلفة والتقائها بالذات، فالعمل الدرامى يضفي «الموضوعية» على الأنا، بتدرجها في سياق الأحداث التى يمر بها.. وأخيراً لقد استطاعت كاملة أبوذكرى نقل السجن بما يحتويه داخل مخيلتنا كأحد الهواجس التي شغلت الإنسان بأسلوب يعزف على مستوى الوعي الإنساني لهذا المكان وشخوصه، فتبلورت أدواتها الفنية في قوالب مـخـتـلفـة ومـتـنـوعـة. فاحتوت التجربة الفردية والجماعية، وعَبَّرت عنها بأساليب متعددة حسب الزمان والمكان والظروف المحيطة بالشخصيات، فكان عملاً فنياً غنياً يجعلك تتغاطى عن الاستغراق فى التفاصيل التى كادت أن تفسده.. والسؤال الأخير الذى يحتاج إلى تفكير.. ماذا لو كان مسلسل «سجن النسا» خمسة عشر حلقة فقط؟.. بالتأكيد كان سيكون عملا متفرداً!






المصدر الوفد

تعليقات

المشاركات الشائعة